الردع الصامت: هل يملك المغرب سلاحًا نوويًا دون أن يعلن ذلك؟

وعليه، إذا ما انطلقنا من فرضية أن الرؤوس النووية التي حملتها الطائرة B‑47 قد وُضعت بالفعل تحت إشراف عسكري مغربي، فإن السؤال الجوهري لا يكون: هل المغرب يمتلك سلاحًا نوويًا؟ بل: لماذا لم يعلن المغرب يومًا عن هذا الامتلاك؟، وهل هناك فائدة في امتلاك السلاح إن لم يُعلَن عنه؟ الجواب، من منظور استراتيجي بحت: نعم، بل إن أعظم الأسلحة هي تلك التي يُخشى وجودها دون تأكيد.
ومما تنبغي الإشارة إليه، بأن عالم التسلح النووي، يتضمن مستويان متوازيان: الردع المعلن (كما تفعل الدول الخمس النووية الرسمية)، والردع غير المعلن أو “الردع الرمزي” (كما يُمارسه حلفاء يمتلكون النفوذ والسكوت معًا). وبخصوص حالة المغرب، فإن السيناريوهات التالية تفتح بابًا لفهم هذا الصمت النووي الطويل:
1- سيناريو الإيداع طويل الأمد (Strategic Custody)
قد تكون الرؤوس قد وُضعت فعلاً في منشأة عسكرية مغربية، محفوظة ضمن ترتيبات أمنية بالغة الدقة، سواء بالتنسيق مع الجيش الأمريكي آنذاك أو بانفصال تام بعد خروج القوات الأمريكية من المغرب في الستينيات. في هذا السيناريو، المغرب لا يستخدم هذه الرؤوس، لكنه يحتفظ بها كـ”سلاح صامت” ضمن أرشيف ردعه السيادي.
2- سيناريو التفكيك والتفكيك الجزئي (Deactivation)
في حال قررت الإدارة المغربية في مرحلة ما أن الاحتفاظ بأسلحة نووية فعلية يتعارض مع سياستها الدولية ومواقفها من معاهدات عدم الانتشار، فقد تكون الرؤوس قد تم تفكيكها، أو فصل مكوناتها الانشطارية، مع الاحتفاظ ببعض أجزائها أو معرفتها التقنية كـ”احتياطي رمزي”.
3- سيناريو الردع الظلي (Shadow Deterrence)
السيناريو الأكثر ترجيحًا من وجهة نظر تحليل استخباراتي، هو أن المغرب لم يُرد أبدًا امتلاك قنبلة نووية قابلة للاستخدام المباشر، بل أن يحتفظ بـ”صمت الردع”، أي أن يبقي على الغموض البنّاء حول إمكانياته الحقيقية. ففي منطقة يعجّ فيها الانفجار الخطابي (الجزائر، إيران، الجماعات المؤدلجة، وغيرهم)، يشكّل الصمت المغربي أحد أبرز عناصر قوته: الدولة التي لا تهدد، لكنها لا تُستفز.
إن فلسفة المغرب في العقود الأخيرة قامت على استراتيجية ضبط النفس مع تراكم الفعالية: في ملف الصحراء، في تحالفاته العسكرية، في تطبيع علاقاته الإقليمية، وحتى في أدبياته الدبلوماسية التي تتجنب المبالغة. وضمن هذا الإطار، من غير المستبعد أن يكون المغرب قد اختار عمدًا ألا يُعلن امتلاكه لأي سلاح نووي، رغم احتمال امتلاكه إياه.
فهذه السياسة الذكية تُبقي الخصوم في حالة من الحذر الدائم، خاصة في منطقة تتصاعد فيها التهديدات غير المتناظرة: من تجنيد المرتزقة إلى دعم الانفصاليين، ومن توظيف الغاز إلى التلويح بالتحالفات المعادية. وفي خضم كل هذا، يكفي للمغرب أن يُترك خارج المعادلات النووية المعلنة، لكنه حاضر في المعادلات الأمنية الواقعية.
منذ منتصف القرن العشرين، والمغرب يتصرّف كقوة إقليمية بعقلية الندّ لا التابع. ليس في ترسانته ما يُعرض في العلن، لكن في عقيدته الاستراتيجية ما يُفهم بذكاء في الكواليس. إن الحكاية الغامضة لاختفاء طائرة أمريكية محمّلة برؤوس نووية، ثم الصمت الرسمي الطويل الذي تلاها، لم يكن عبثًا في التاريخ، بل ربما كان تأسيسًا مبكرًا لعقيدة مغربية قوامها: من يمتلك الحق في الردع، لا يحتاج أن يصرخ به.
لقد فهم المغرب، عبر عقوده من المواجهات الإقليمية والتوترات الحدودية، أن القوة الحقيقية ليست في عدد القنابل، بل في القدرة على التحكّم في الزمن السياسي والقرار السيادي والمعلومة الاستخباراتية. وبينما انشغلت جيرانه بتكديس السلاح على حساب الاستقرار، أو بتمويل الفوضى تحت شعارات إيديولوجية، شقّ المغرب طريقًا ثالثًا: طريق الصمت الصلب.
إن دولةً تستطيع أن تُخرج طائرة محمّلة برؤوس نووية من تغطية الرادارات، وأن تُسكت كل أجهزة الاستخبارات الغربية والشرقية عن مصيرها، ثم تُخفي بعد عقود طائرة تحمل رئيس دولة دون أن يلاحظ أحد، هي دولة لا يُستهان بها. ليست المسألة في سلاح، بل في قدرة عقل الدولة على التخطيط الاستراتيجي متعدد الطبقات.
فالمغرب اليوم ليس بحاجة إلى تفجير نووي ليُثبت مكانته، بل يكفيه أن تبقى الشكوك قائمة حول ما إذا كان يملك أو لا يملك وسيلة ردع نهائية. وهذا في منطق الردع، قوة توازي القنبلة ذاتها.
ولعل هذا ما يفسر إلى حد بعيد ذلك التوتر الكامن لدى خصومه الإقليميين: فهم يدركون أن المملكة، تحت قيادتها المستقرة، لا تقول كل ما تعرف، ولا تُظهر كل ما تملك. وهذه، في ميزان القوة، قمة الذكاء السيادي.
Comments 0